Skip to main content

وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ


 إنّ القُرآن كلام ربّ العالمين! ولو أدرك كل إنسان معنى هذه الجُملة حقًّا لما مرّت آية إلا وانتبه! وقال بقلبه "كلام ربّي! كلام ربّي!"، فهذا حال المُحب البعيد، وسُلوان شوقِه، فبالقُرآن صار يتصبّر، ويُبصر ما غاب عن أنظار أهل الدُنيا، فيعرف ربّه الكريم من كلامه سُبحانه! 


إنك تعرفُ ربّك حين ترى حكمته، وترى معيّته سُبحانه مع عباده المؤمنين، وحتى تُدرك ذلك تخيّل أنك لا تعرف نهاية كل قصّة قُرآنية، تخيّل أنّك تعيش مع أصحابها حدثًا بحدث، ستتعجّب من أمرين:

  • الأول: أنه ما كنت تتخيّل أن تلك البداية سيكون هذه نهايتها.
  • الثاني: أن الدافع الوحيد لاستمرار الصالحين؛ هو إيمانهم الكامل بالله وبحكمته، إيمانًا مُفضيًا للتسليم التام!


ترى ذلك كل جُمعة، حين تقرأ سورة الكهف، فتقرأ قوله تعالى﴿أَمۡ حَسِبۡتَ أَنَّ أَصۡحَـٰبَ ٱلۡكَهۡفِ وَٱلرَّقِیمِ كَانُوا۟ مِنۡ ءَایَـٰتِنَا عَجَبًا ۝٩ إِذۡ أَوَى ٱلۡفِتۡیَةُ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ فَقَالُوا۟ رَبَّنَاۤ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةࣰ وَهَیِّئۡ لَنَا مِنۡ أَمۡرِنَا رَشَدࣰا﴾ 

كان هذا الدعاء آخر ما فعله الفتية قبل دخولهم الكهف! دعوا ربّهم "هيئ لنا من أمرنا رشدًا"، لو سألتك… برأيك ماذا تتوّقع أن يحدث؟ كيف تتصوّر ستكون إجابة دعائهم؟ هل سيملكون قوّة يغلبوا بها قومهم؟ هل سيجتمع معهم قبائل أُخرى تُعينهم؟

فتتابع مع الآيات، فتقرأ قول ربّك -سُبحانه وتعالى- ﴿فَضَرَبۡنَا عَلَىٰۤ ءَاذَانِهِمۡ فِی ٱلۡكَهۡفِ سِنِینَ عَدَدࣰا ۝١١ ثُمَّ بَعَثۡنَـٰهُمۡ لِنَعۡلَمَ أَیُّ ٱلۡحِزۡبَیۡنِ أَحۡصَىٰ لِمَا لَبِثُوۤا۟ أَمَدࣰا ۝١٢﴾ نعم! كما تسمع كلام ربّ العالمين، كما ترى بقلبك قبل عينك! هذا أمر الله! هذا أمر الحكيم اللطيف! فقد تحرّك الزمان، ولم يتحرّك هؤلاء الفتية، لبثوا في كهفهم سنين عددا، فهذه كانت الرحمة، وهذا كان أجلّ الرُشد في أمرهم، وأعظم تدبير! ﴿فَأۡوُۥۤا۟ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ یَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَیُهَیِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقࣰا﴾فتأمّل! فمن كان يظنّ أن لبوثهم في الكهف كل هذه الأعوام قد يُغيّر ما يُغيّر؟

ترى هذا المعنى مرّة أخرى في قصّة يُوسف -عليه السلام-، تراهُ في الفقد، تراه في الألم، في الغُربة، في الشدّة، لكن تذكّر كأنّك لا تعرف النهاية!

تأمّل الآيات ﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا۟ بِهِۦ وَأَجۡمَعُوۤا۟ أَن یَجۡعَلُوهُ فِی غَیَـٰبَتِ ٱلۡجُبِّۚ وَأَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمۡرِهِمۡ هَـٰذَا وَهُمۡ لَا یَشۡعُرُونَ﴾ يا الله! يا إيمان يوسف -عليه السلام-! وهو يُلقى في الجُبّ يُوحى إليه أنه سيُخبرهم في يومٍ ما! لا يدري يوسف -عليه السلام- متى، ولا كيف، فيُلقى في الجُبّ وحيدًا، كيف للغُلام أن يصمد؟ا.. إنه إيمانه! أنيس قلبه، حينها يوسف -عليه السلام- لم يكن يعرف النهاية، سلّم لأمر ربّه، إنّه الإيمان.. متى امتلأت به القلوب رأيت عجبًا!  


ثم تقرأ الآيات ﴿وَقَالَ ٱلَّذِی ٱشۡتَرَىٰهُ مِن مِّصۡرَ لِٱمۡرَأَتِهِۦۤ أَكۡرِمِی مَثۡوَىٰهُ عَسَىٰۤ أَن یَنفَعَنَاۤ أَوۡ نَتَّخِذَهُۥ وَلَدࣰاۚ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِیُوسُفَ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلِنُعَلِّمَهُۥ مِن تَأۡوِیلِ ٱلۡأَحَادِیثِۚ وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰۤ أَمۡرِهِۦ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ ۝٢١ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُۥۤ ءَاتَیۡنَـٰهُ حُكۡما وَعِلۡماۚ وَكَذَلِكَ نَجۡزِی ٱلۡمُحۡسِنِینَ ۝٢٢﴾ 

عجيب.. عجيب، أن تقرأ هذه الآيات ولا تتوّقف، كان هذا بداية تمكين الغُلام! في الجُبّ، ثُم اشترى، ثم اغترب، من كان يدري أن هذه الشدائد الظاهرة يتخللها رحمة باطنة؟ بها التمكين، وبها العلم، وبها الحُكم؟ إنها إجابة واحدة "والله غالب على أمره".

 

ترى المعنى أيضًا في مشاهد عدّة، أجلّها في قصّة موسى -عليه السلام- في سورة القصص، هذه السورة العظيمة -سورة الترجّي- فقد نزلت قُرب هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وخروجه من مكّة إلى المدينة، ليطمئن قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن الألطاف تُحيط به من كُل جانب! 

ترى في بدايات السورة قوله تعالى ﴿وَنُرِیدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِینَ ٱسۡتُضۡعِفُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَنَجۡعَلَهُمۡ أَىِٕمَّةࣰ وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَارِثِینَ ۝٥ وَنُمَكِّنَ لَهُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَنُرِیَ فِرۡعَوۡنَ وَهَـٰمَـٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنۡهُم مَّا كَانُوا۟ یَحۡذَرُونَ﴾ 

الآن أنت لا تعرف كيف سيحدث هذا! ماذا تتوّقع؟ كيف ستكون بداية هلاكهم؟ 

﴿وَأَوۡحَیۡنَاۤ إِلَىٰۤ أُمِّ مُوسَىٰۤ أَنۡ أَرۡضِعِیهِۖ فَإِذَا خِفۡتِ عَلَیۡهِ فَأَلۡقِیهِ فِی ٱلۡیَمِّ وَلَا تَخَافِی وَلَا تَحۡزَنِیۤۖ إِنَّا رَاۤدُّوهُ إِلَیۡكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِینَ﴾ 

نعم! كما تقرأ الآية! كانت البداية عند أم وطفل، ألقته في اليم! فقط لأن الله أوحى لها ذلك! هل كانت تعلم أم موسى أنه سيعود؟ أن موسى -عليه السلام- سيكون نبيّ؟ كان علمها الوحيد أن الله عز وجلّ قال لها "إنا رادّوه إليكِ وجاعلوه من المُرسلين"، إنه الإيمان! إنه التسليم! بِه يتصرّف المؤمن ويرى. 

إننا حين نرى المشاهد بأعيننا لا يسعنا المجال إلا إلى ما تحت أقدامنا، لكن من يُبصر المشاهد بإيمان قلبه فلا حدّ ولا قيد، إنّه يرى بعلمِ الله، ولطُفه، وحكمته، تجده يرى اتسّاعًا مُمتدًّا لا يعرف منتهاه.


فمن كان يدري أن مكوث الفتية في الكهف كان بِه إيمان قومهم؟

ومن كان يدري أن وحشة الجُب، وضيق الغُربه، بداية المُلك؟

ومن كان يدري أن طفلًا أُلقي في اليم يكون بِه نجاة بني إسرائيل؟ 


صدق الله في قوله عن فتية الكهف ﴿وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾

صدق الله في قوله عن حال يوسف -عليه السلام- ﴿وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰۤ أَمۡرِهِۦ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ﴾

صدق الله في قوله عن حال أم موسى -عليه السلام- ﴿وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾


فوعده -سُبحانه- حقّ! ولكن كثيرًا منّا لا يعلم.. 

فلك الحمد ربُّنا، سُبحانك.. ءاتنا من لدّنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشدًا! فلا حول ولا قوّة إلا بك.

Comments

Popular posts from this blog

أقربُ إلى أَبِينَا آدم

  أمام كُل الأقوال التي تدّعي أن الإنسان يقوم بمُفردِه، يأبى الواقع مرارًا إلا أن يُثبت ضعف الإنسان وحاجته إلى ركُنٍ شديد يأوي إليه، فالضعفُ أمر مكتوب على الإنسان، وما أشدَّ الضعف حين لا يجد الإنسان من يستعين به! لكن حين يعرف ربّه الغني، هُنا يتفتح من الجلال والجمال ما يجعل للضعفِ حلاوة، يحيى بها العبد راضيًا مُشتاقًا. إن إدراك الضعف هو أولى الخطوات ليتعرّف الإنسان إلى ربّه، فإن أبانا آدم -عليه السلام- بضعفه الأوّل -حين أكل من الشجرة- تعرّف إلى الله -عز وجل- باسمه "التواب الرحيم"، يقول الله تعالى ﴿فَتَلَقَّىٰۤ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَـٰتࣲ فَتَابَ عَلَیۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِیمُ﴾ وهكذا علّمنا أبونا!  وحول هذا يقول ابن القيّم -رحمه الله- (فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ الأسماء الْحسنى، فَمن أسمائه الغفور الرَّحِيم، الْعَفو الْحَلِيم، الْخَافِض الرافع، الْمعز المذل، المحيي المميت، الْوَارِث الصبور، وَلَا بُد من ظُهُور آثَار هَذِه الأسماء؛ فاقتضت حكمته سُبْحَانَهُ أن ينزل آدم وَذريته دَارًا يظْهر عَلَيْهِم فِيهَا أثر أسمائه الحُسنى، فَيغْفر فِيهَا لمن يَشَاء، وَيرْ

المُطلق المُدرك

  بين اتساعين: يقول الله عزّ وجل ﴿وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ سَنُدۡخِلُهُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۤ أَبَدࣰاۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣰّاۚ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِیلࣰا﴾ حين يعيش القلب في النعيم الأخروي، ويتقلّب بين مشاهد الجِنان.. تأتي خاطرة مُلّحة، هذه الخاطرة تتساءل مُتعجّبة "للأبد؟" "خالدين فيها؟" فكلمة الأبد أو الخلود كلمات لها مُطلق لا يُدركها العقل الدنيوي المحدود، تأتي كلمة الأبد ولا يستطيع العقل استيعاب اللاحد! لا يستطيع التصوّر إلا بتوّقف الزمن! ثم إذا ما جاء وصف الجنّة وجدنا الحديث القُدسي الذي يقول اللهُ تعالى فيه: "أعددتُ لعبادي الصالحينَ ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ، ذخرًا بَلْهَ ما أطلعتُهم عليه، اقرأوا إن شئتم (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوْا يَعْمَلُونَ)"، فيقف العقل مرةً أُخرى أمام "ولا خطر على قلب بشر" فيحاول أن يتصوّر الجمال، ويتخيّله، ويدمجه، فلا يجد سبيلًا إلا بما يعرفه، فكيف بما لا

العبودية والتربية

مُقدّمة: في كل أمر من أمور حياتنا ومع واقعنا المُعاصر، لا بد أن نسأل "لماذا؟" حتى وإن بدا الأمر بدهيًّا، وذلك لأننا نحمل الكثير من الشوائب الفكرية المتخلطة، سواء من ثقافة المجتع، أو من الفكر الغربي، أو من غيرهما. وسؤال "لماذا" ضروري لأنه يكشف للإنسان المكرزية التي ينطلق منها، ومتى وضع الإنسان يده عليها فهم الكثير من الأفعال التي يرتكبها، فهل الإنسان المُعاصر مركوزًا إلى ركن شديد يأوي إليه؟ أم أنه في حالة لزجة لا تعرف الحدود والبدايات؟ النقطة الثانية في سؤال "لماذا" لأنه يفضح أو يكشف، يكشف أنّه لا حقائق إلّا حقيقة واحدة -الركن الشديد- وهي الحقيقة التعبديّة، الحقيقة التي يحيا من أجلها الإنسان ويموت عليها، لذا دعنا نسأل سؤال "لماذا" فيما يخص موضوعنا اليوم ألا وهو التربية، لماذا نُربّي؟ لو قال قائل حتى يكون مجتمعنا مجتمعًا فضيلًا، يستمتع بالأمان، لسألناه ثم بعد ذلك؟ يعيش سعيدًا.. ثم بعد ذلك؟ اااه.. نموت، وبالتالي يكشف الموت حقيقة الأشياء، ماذا بعد الموت إذًا؟ هل أديت المطلوب في التربية والذي ينفع لما بعد الموت؟ وبالتالي الإنسان العاقل، هو الذي تكون إ