Skip to main content

أقربُ إلى أَبِينَا آدم


 أمام كُل الأقوال التي تدّعي أن الإنسان يقوم بمُفردِه، يأبى الواقع مرارًا إلا أن يُثبت ضعف الإنسان وحاجته إلى ركُنٍ شديد يأوي إليه، فالضعفُ أمر مكتوب على الإنسان، وما أشدَّ الضعف حين لا يجد الإنسان من يستعين به! لكن حين يعرف ربّه الغني، هُنا يتفتح من الجلال والجمال ما يجعل للضعفِ حلاوة، يحيى بها العبد راضيًا مُشتاقًا.


إن إدراك الضعف هو أولى الخطوات ليتعرّف الإنسان إلى ربّه، فإن أبانا آدم -عليه السلام- بضعفه الأوّل -حين أكل من الشجرة- تعرّف إلى الله -عز وجل- باسمه "التواب الرحيم"، يقول الله تعالى ﴿فَتَلَقَّىٰۤ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَـٰتࣲ فَتَابَ عَلَیۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِیمُ﴾ وهكذا علّمنا أبونا! 


وحول هذا يقول ابن القيّم -رحمه الله- (فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ الأسماء الْحسنى، فَمن أسمائه الغفور الرَّحِيم، الْعَفو الْحَلِيم، الْخَافِض الرافع، الْمعز المذل، المحيي المميت، الْوَارِث الصبور، وَلَا بُد من ظُهُور آثَار هَذِه الأسماء؛ فاقتضت حكمته سُبْحَانَهُ أن ينزل آدم وَذريته دَارًا يظْهر عَلَيْهِم فِيهَا أثر أسمائه الحُسنى، فَيغْفر فِيهَا لمن يَشَاء، وَيرْحَم من يَشَاء، ويخفض من يَشَاء، وَيرْفَع من يَشَاء، ويعز من يَشَاء، ويذل من يَشَاء، وينتقم مِمَّن يَشَاء، وَيُعْطى وَيمْنَع ويبسط، إلى غير ذَلِك من ظُهُور أثر أسمائه وَصِفَاته. 


وَأَيْضًا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ الْملك الْحق الْمُبين، وَالْملك هُوَ الَّذِي يَأْمر وَينْهى، ويثيب ويعاقب، ويهين وَيكرم، ويعز ويذل؛ فَاقْتضى ملكه سُبْحَانَهُ أن أَنْزَلَ آدم وَذريته دَارًا تجري عَلَيْهِم فِيهَا أحكام الْملك، ثمَّ ينقلهم إلى دَارٍ يتم عَلَيْهِم فِيهَا ذَلِك)


فلو أدرك كُل إنسان جلال هذا الأمر، وتحرّك بضعفه إلى مولاه الغنيّ الحميد لذاق شيئًا من نعيم الجنّة، شيئًا من نعيم القُرب الأوّل، ولو تأمّلتَ الأنبياء جميعهم ترى ذلك واضحًا جليًّا، على خطى أبيهم -عليهم السلام أجمعين-!


فهذا أبو الأنبياء -إبراهيم عليه السلام- يُعرّف ربّه بحاجة الإنسان وضعفه، ففي الآية الكريمة التي تقصّ علينا خبره -عليه السلام- ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَیۡهِ ٱلَّیۡلُ رَءَا كَوۡكَبࣰاۖ قَالَ هَـٰذَا رَبِّیۖ فَلَمَّاۤ أَفَلَ قَالَ لَاۤ أُحِبُّ ٱلۡـَٔافِلِینَ﴾ إنها الفطرة "لا أُحب الأفلين"، وقَوْلُهُ ”لا أُحِبُّ“ الحُبُّ فِيهِ بِمَعْنى الرِّضى والإرادَةِ، أيْ لا أرْضى بِالآفِلِ إلَهًا، أوْ لا أُرِيدُ الآفِلَ إلَهًا.

ووَجْهُ الِاسْتِدْلالِ بِالأُفُولِ عَلى عَدَمِ اسْتِحْقاقِ الإلَهِيَّةِ أنَّ الأُفُولَ مَغِيبٌ وابْتِعادٌ عَنِ النّاسِ، وشَأْنُ الإلَهِ أنْ يَكُونَ دائِمَ المُراقَبَةِ لِتَدْبِيرِ عِبادِهِ فَلَمّا أفَلَ النَّجْمُ كانَ في حالَةِ أُفُولِهِ مَحْجُوبًا عَنِ الِاطِّلاعِ عَلى النّاسِ، فما يَغِيبُ لا يَسْتَحِقُّ أنْ يُتَّخَذَ إلَهًا لِأنَّهُ لا يُغْنِي عَنْ عِبادِهِ فِيما يَحْتاجُونَهُ حِينَ مَغِيبِهِ.

لذا أعلن بعدها -عليه السلام- ﴿وَسِعَ رَبِّی كُلَّ شَیۡءٍ عِلۡمًاۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ فهذه حاجة العبد، حاجة من ينسى، ويسهو، ويغفل، وينام! حاجته إلى مولاه الواسع، الذي يُحيط بكل شيءٍ علمًا، مولاه الحيّ القيّوم الذي لا تأخذه سِنة ولا نوم.


ثم تسير مع كليم الله -موسى عليه السلام- لتتأمّل في دُعائه، فترى بقلبِك أن ٱللَّهُ أَعۡلَمُ حَیۡثُ یَجۡعَلُ رِسَالَتَهُ! فيدعو موسى -عليه السلام- ربّه ﴿قَالَ رَبِّ ٱشۡرَحۡ لِی صَدۡرِی ۝٢٥ وَیَسِّرۡ لِیۤ أَمۡرِی ۝٢٦ وَٱحۡلُلۡ عُقۡدَةࣰ مِّن لِّسَانِی ۝٢٧ یَفۡقَهُوا۟ قَوۡلِی ۝٢٨ وَٱجۡعَل لِّی وَزِیرࣰا مِّنۡ أَهۡلِی ۝٢٩ هَـٰرُونَ أَخِی ۝٣٠ ٱشۡدُدۡ بِهِۦۤ أَزۡرِی ۝٣١ وَأَشۡرِكۡهُ فِیۤ أَمۡرِی ۝٣٢ كَیۡ نُسَبِّحَكَ كَثِیرࣰا ۝٣٣ وَنَذۡكُرَكَ كَثِیرًا ۝٣٤ إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِیرࣰا ۝٣٥﴾ إنك كُنت بنا بصيرًا، هذه المعيّة التي يحتاجها العبد، حاجته لمولاه الذي يُبصر حاله، ويعلمُ ما في صدره، يعلم خوفه واضطرابه.. ثم يأتي كلام البصير القريب سُبحانه ﴿قَالَ قَدۡ أُوتِیتَ سُؤۡلَكَ یَـٰمُوسَىٰ﴾، ﴿قَالَ لَا تَخَافَاۤۖ إِنَّنِی مَعَكُمَاۤ أَسۡمَعُ وَأَرَىٰ﴾، فِعم الربُّ ربُّنا!


ولو أبصرت حياة كُل نبيّ من أنبياء الله! ترى القُرب الذي يُعزّ الإنسان ويرفعه، ترى الملجأ الذي يُفتح به خزائن الخير، فهذا زكريّا -عليه السلام- يحكي ضعفه لربّه -تبارك وتعالى-، واصفًا وهن عظمه، وشيب رأسه ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّی وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّی وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَیۡبࣰا﴾ ثم يذكر فضل ربّه عليه ﴿وَلَمۡ أَكُنۢ بِدُعَاۤىِٕكَ رَبِّ شَقِیࣰّا﴾ فمن كان مع الله تراهُ يتذوّق من الجلال والجمال ما لا يعرفه غيره، فتراهُ يدعو الدُعاء وهو لا ينظر إلى نفسه، بل ناظرًا إلى ربّه!


وهكذا كُنّا أُمّة واحدةً، بُدئت بأبينا آدم -عليه السلام- الأقربُ إلينا، والأقرب منّا، وعلى نهجه نسيرُ في هذه الدُنيا، نُزيل حُجب الضعف بالقُرب من الله عزّ وجل، "فهو الرب أسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم سوء، وأوصافه كلها كمال ليس فيها صفة نقص، وأفعاله كلها حكمة ليس فيها فعل خال عن الحكمة والمصلحة، وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم، موصوف بصفة الكمال، مذكور بنعوت الجلال، منزّه عن الشبيه والمثال، ومنزّه عما يضاد صفات كماله: 

فمنزه عن الموت المضاد للحياة، وعن السنة والنوم والسهو والغفلة المضاد للقيومية، 

وموصوف بالعلم، منزه عن أضداده كلها من النسيان والذهول وعزوب شيء عن علمه، 

موصوف بالقدرة التامة، منزه عن ضدها من العجز واللغوب والإعياء،

موصوف بالعدل، منزه عن الظلم، 

موصوف بالحكمة منزه عن العبث، 

موصوف بالسمع والبصر، منزه عن أضدادهما من الصمم والبكم، 

موصوف بالعلو والفوقية، منزه عن أضداد ذلك، 

موصوف بالغنى التام، منزّه عما يضاده بوجه من الوجوه."


فقُل لي بربّك! كيف يستغنى العبد عن مولاه؟ صدق الله ﴿كَلَّاۤ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَیَطۡغَىٰۤ ۝٦ أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰۤ ۝٧﴾، فكان طغيانه على نفسه قبل الخلق، طغى على نفسه حين أفقدها الحقيقة، فصار في هذه الحياة خيالًا! يتحرّك ولا يتحرّك، يحيى وهو ميّت، يسيرُ في الدُنيا سيرًا يقطعه موته ولا يمتدّ به إلى رضوان ربّه! فيا حسرتاهُ، ويا أسفاه!






Comments

Popular posts from this blog

المُطلق المُدرك

  بين اتساعين: يقول الله عزّ وجل ﴿وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ سَنُدۡخِلُهُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۤ أَبَدࣰاۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣰّاۚ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِیلࣰا﴾ حين يعيش القلب في النعيم الأخروي، ويتقلّب بين مشاهد الجِنان.. تأتي خاطرة مُلّحة، هذه الخاطرة تتساءل مُتعجّبة "للأبد؟" "خالدين فيها؟" فكلمة الأبد أو الخلود كلمات لها مُطلق لا يُدركها العقل الدنيوي المحدود، تأتي كلمة الأبد ولا يستطيع العقل استيعاب اللاحد! لا يستطيع التصوّر إلا بتوّقف الزمن! ثم إذا ما جاء وصف الجنّة وجدنا الحديث القُدسي الذي يقول اللهُ تعالى فيه: "أعددتُ لعبادي الصالحينَ ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ، ذخرًا بَلْهَ ما أطلعتُهم عليه، اقرأوا إن شئتم (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوْا يَعْمَلُونَ)"، فيقف العقل مرةً أُخرى أمام "ولا خطر على قلب بشر" فيحاول أن يتصوّر الجمال، ويتخيّله، ويدمجه، فلا يجد سبيلًا إلا بما يعرفه، فكيف بما لا

العبودية والتربية

مُقدّمة: في كل أمر من أمور حياتنا ومع واقعنا المُعاصر، لا بد أن نسأل "لماذا؟" حتى وإن بدا الأمر بدهيًّا، وذلك لأننا نحمل الكثير من الشوائب الفكرية المتخلطة، سواء من ثقافة المجتع، أو من الفكر الغربي، أو من غيرهما. وسؤال "لماذا" ضروري لأنه يكشف للإنسان المكرزية التي ينطلق منها، ومتى وضع الإنسان يده عليها فهم الكثير من الأفعال التي يرتكبها، فهل الإنسان المُعاصر مركوزًا إلى ركن شديد يأوي إليه؟ أم أنه في حالة لزجة لا تعرف الحدود والبدايات؟ النقطة الثانية في سؤال "لماذا" لأنه يفضح أو يكشف، يكشف أنّه لا حقائق إلّا حقيقة واحدة -الركن الشديد- وهي الحقيقة التعبديّة، الحقيقة التي يحيا من أجلها الإنسان ويموت عليها، لذا دعنا نسأل سؤال "لماذا" فيما يخص موضوعنا اليوم ألا وهو التربية، لماذا نُربّي؟ لو قال قائل حتى يكون مجتمعنا مجتمعًا فضيلًا، يستمتع بالأمان، لسألناه ثم بعد ذلك؟ يعيش سعيدًا.. ثم بعد ذلك؟ اااه.. نموت، وبالتالي يكشف الموت حقيقة الأشياء، ماذا بعد الموت إذًا؟ هل أديت المطلوب في التربية والذي ينفع لما بعد الموت؟ وبالتالي الإنسان العاقل، هو الذي تكون إ