Skip to main content

المُطلق المُدرك

 

بين اتساعين:

يقول الله عزّ وجل ﴿وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ سَنُدۡخِلُهُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۤ أَبَدࣰاۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣰّاۚ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِیلࣰا﴾ حين يعيش القلب في النعيم الأخروي، ويتقلّب بين مشاهد الجِنان.. تأتي خاطرة مُلّحة، هذه الخاطرة تتساءل مُتعجّبة "للأبد؟" "خالدين فيها؟" فكلمة الأبد أو الخلود كلمات لها مُطلق لا يُدركها العقل الدنيوي المحدود، تأتي كلمة الأبد ولا يستطيع العقل استيعاب اللاحد! لا يستطيع التصوّر إلا بتوّقف الزمن!


ثم إذا ما جاء وصف الجنّة وجدنا الحديث القُدسي الذي يقول اللهُ تعالى فيه: "أعددتُ لعبادي الصالحينَ ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ، ذخرًا بَلْهَ ما أطلعتُهم عليه، اقرأوا إن شئتم (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوْا يَعْمَلُونَ)"، فيقف العقل مرةً أُخرى أمام "ولا خطر على قلب بشر" فيحاول أن يتصوّر الجمال، ويتخيّله، ويدمجه، فلا يجد سبيلًا إلا بما يعرفه، فكيف بما لا يعرفه؟! مهما تخيّل.. مهما خطر له الجمال والجلال.. لم يصل بعد، ولن يصل، فكان أمام المكان عاجزًا تمامًا كما كان حاله مع الزمان.


ولكن هذا ليس بغريب! 

ليس بغريبٍ عن صاحب القُرآن.. فإن من عاش مع القرآن أدرك ما معنى الخلود في الجنة، أدرك أنه مهما امتدت الأبعاد فأهل الجنّة لا يعرفون الملل!


إنك كُلما صاحبت القرآن قلت هل من مزيد؟ وكلما صاحبته وجدت أن عُمرك لا يسع إدراك جُل ما فيه، وكلما تقدمت في شاطئه تريد الاقتراب من عُمقه ازداد الشاطئ وطال بك، كلما دخلت على القرآن من كل باب عرفت معنى الخلود؛ لإمتاع عقلك، لتهذيب نفسك، لإرواء روحك، لضبط لسانك.. بحورًا بحورًا لا تسعها كبشري في الدُنيا! وكلما ذُقت معنى أدركت كيف أن فاكهة الجنة لا تشبه فاكهة الدنيا، فالكلمة في القرآن وإن كان لفظها مشابهًا للفظ نستخدمه، لكن في القرآن له وقع وذوق مختلف، ذوق حلو.


الآن يا صاحبي أدركتَ كيف أن الخلود في الجنّة لا يُمل أبدًا! 


كلام الله مهما طالت صحبتك معه لن تمل، كل يوم ترى عجبًا، كل يوم تدرك أنه ﴿لَّوۡ كَانَ ٱلۡبَحۡرُ مِدَادࣰا لِّكَلِمَـٰتِ رَبِّی لَنَفِدَ ٱلۡبَحۡرُ قَبۡلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَـٰتُ رَبِّی وَلَوۡ جِئۡنَا بِمِثۡلِهِۦ مَدَدࣰا﴾، فالقُرآن يجعلك تتذوّق معنى المُطلق، المعنى الذي لا حدّ له! وهذا هو معنى الخلود! الآن عرفتَ جواب السؤال الذي لا ينفّك عنّا "في الجنة للأبد؟ للأبد!"

نعم، كُنا لا نعرف "الأبد" لكننا ذُقناه بالقرآن، ذُقناه بالعطاء الذي لا حد له، المعنى الذي لا حد له، الطيبات التي لا حد لها، النعيم الذي لا حد له! كأنّها وصف الجنّة، وهي خلق الله عزّ وجل، ولو شئت لأقبلت إلى القُرآن لتجد ما وجدّته في الجنّة، ومع القرآن لا يفقد القلب دهشته أمام المُطلق المُمتد، ولكنّه يتقبّله، بل يزداد يقينًا بِه؛ لأن صاحب القرآن عاش مع كلام ربّه عزّ وجل، فرأى بقلبه وصدّق، فسلّم!


يقول الله عزّ وجل ﴿وَلَوۡ أَنَّمَا فِی ٱلۡأَرۡضِ مِن شَجَرَةٍ أَقۡلَـٰمࣱ وَٱلۡبَحۡرُ یَمُدُّهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦ سَبۡعَةُ أَبۡحُرࣲ مَّا نَفِدَتۡ كَلِمَـٰتُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِیزٌ حَكِیمࣱ﴾ [لقمان ٢٧] سُبحانك ربي ما أعظمك! فهذه جنّته وهي خلق من خلقِه، وهذا كلامه سُبحانه وتعالى! يا الله..


في رحاب معرفة ربِّ العالمين!

أمّا أمام أسمائه الحُسنى فأنت تعرف ربّك، ولكنك محدود.. محدود جدًّا! 

تأمّل جيّدًا في الدعاء الوارد في السُنّة، حين قال سيد المُرسلين ﷺ: "ما أصابَ أحدًا قَطُّ هَمٌّ ولا حَزَنٌ، فقال: اللَّهُمَّ إنِّي عبدُكَ، ابنُ عبدِكَ، ابنُ أَمتِكَ، ناصيَتي بيَدِكَ، ماضٍ فيَّ حُكمُكَ، عَدلٌ فيَّ قَضاؤكَ، أسأَلُكَ بكلِّ اسمٍ هو لك، سمَّيتَ به نفْسَكَ، أو علَّمتَه أحدًا مِن خلْقِكَ، أو أنزَلتَه في كتابِكَ، أو استَأثَرتَ به في عِلمِ الغَيبِ عندَك، أنْ تجعَلَ القُرآنَ رَبيعَ قلبي، ونورَ صَدري، وجِلاءَ حُزني، وذَهابَ هَمِّي؛ إلَّا أذهَبَ اللهُ هَمَّه وحُزنَه، وأبدَلَه مكانَه فَرحًا"، قال: فقيلَ: يا رسولَ اللهِ، ألَا نتعلَّمُها؟ فقال: "بلى، يَنبَغي لمَن سمِعَها أنْ يتعلَّمَها".


قف أمام قوله ﷺ في الحديث: "أو استأثرت به في علم الغيب عندك" لتتذكّر ذلك المشهد المهيب يوم القيامة! ففي حديث آخر يصف نبيّنا مُحمد ﷺ أهوال يوم الحشر، وعند قوله ﷺ: "فَيَأْتُونِّي فيَقولونَ: يا مُحَمَّدُ، أنْتَ رَسولُ اللهِ، وخاتَمُ الأنْبِياءِ، وغَفَرَ اللَّهُ لكَ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ، وما تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لنا إلى رَبِّكَ، ألا تَرَى ما نَحْنُ فِيهِ؟ ألا تَرَى ما قدْ بَلَغَنا؟ فأنْطَلِقُ، فَآتي تَحْتَ العَرْشِ، فأقَعُ ساجِدًا لِرَبِّي، ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ ويُلْهِمُنِي مِن مَحامِدِهِ، وحُسْنِ الثَّناءِ عليه شيئًا لَمْ يَفْتَحْهُ لأَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقالُ: يا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فأرْفَعُ رَأْسِي، فأقُولُ: يا رَبِّ، أُمَّتي أُمَّتِي، فيُقالُ: يا مُحَمَّدُ، أدْخِلِ الجَنَّةَ مِن أُمَّتِكَ مَن لا حِسابَ عليه مِنَ البابِ الأيْمَنِ مِن أبْوابِ الجَنَّةِ، وهُمْ شُرَكاءُ النَّاسِ فِيما سِوَى ذلكَ مِنَ الأبْوابِ، والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، إنَّ ما بيْنَ المِصْراعَيْنِ مِن مَصارِيعِ الجَنَّةِ لَكما بيْنَ مَكَّةَ وهَجَرٍ، أوْ كما بيْنَ مَكَّةَ وبُصْرَى."


لتقف مرّةً أُخرى أمام قوله صلى الله عليه وسلّم "ثم يفتح الله عليّ ويُلهمني من محامده وحُسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه لأحد قبلي" لتخرّ ساجدًا لله ربِّ العالمين.

يا صاحبي! تأتي هذه المعاني فتجعل القلب في حالةٍ من الاستسلام التام لله ربِّ العالمين، تأتي فتشعر بامتدادها اللانهائي، تأتي وكأنّها تمدّك إلى الغيب فتؤمن به إيمانًا تامًّا وأنت لم تره.




أعظم القلوب وأجلّها:

يا صاحبي.. أما عنّي ففي صدري يلحُّ سؤال لا ينفك عنّي! كيف كان قلب رسول الله ﷺ؟ تلّقى الوحي من جبريل عليه السلام، وتنزّل القرآن في قلبه مُباشرةً، بل جُمعت كل معانيه في صدره ﷺ ﴿إِنَّ عَلَیۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ﴾ [القيامة ١٧]، بجانب ذلك.. في رحلة المعراج! تأمّل قوله ﷺ "ثم عُرِج بنا إلى السماءِ السابعةِ، فاستفتح جبريلُ، فقيل: مَن هذا؟ قال: جبريلُ، قيل: ومن معك، قال: محمدٌ، قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: قد بُعِث إليه، ففُتِح لنا، فإذا أنا بإبراهيمَ مُسنِدًا ظهرَه إلى البيتِ المعمورِ، وإذا هو يدخلُه كلَّ يومٍ سبعون ألفَ ملَكٍ، لا يعودون إليه، ثم ذهب بي إلى سدرةِ المنتهى، وإذا ورَقُها كآذانِ الفِيَلَةِ، وإذا ثمرُها كالقِلالِ، فلما غشِيَها من أمرِ اللهِ ما غَشِيَ تغيَّرتْ، فما أحدٌ مِن خلْقِ اللهِ يستطيعُ أن ينعتَها من حُسنِها، فأوحى اللهُ إليَّ ما أوحى، ففرض عليَّ خمسين صلاةً في كلِّ يومٍ وليلةٍ."

تحديدًا في قوله ﷺ "وإذ هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه" فكم هي أعداد الملائكة؟! وكذلك في قوله ﷺ "فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيّرت، فما أحدٌ من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حُسنا"


صدق رب العالمين ﴿مَا كَذَبَ ٱلۡفُؤَادُ مَا رَأَىٰۤ ۝١١ أَفَتُمَـٰرُونَهُۥ عَلَىٰ مَا یَرَىٰ ۝١٢ وَلَقَدۡ رَءَاهُ نَزۡلَةً أُخۡرَىٰ ۝١٣ عِندَ سِدۡرَةِ ٱلۡمُنتَهَىٰ ۝١٤ عِندَهَا جَنَّةُ ٱلۡمَأۡوَىٰۤ ۝١٥ إِذۡ یَغۡشَى ٱلسِّدۡرَةَ مَا یَغۡشَىٰ ۝١٦ مَا زَاغَ ٱلۡبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ ۝١٧ لَقَدۡ رَأَىٰ مِنۡ ءَایَـٰتِ رَبِّهِ ٱلۡكُبۡرَىٰۤ ۝١٨﴾ وبعد هذه يعيش رسول الله ﷺ في الدُنيا! فكيف لهذا القلب الشريف هذه القُدرة؟ إنها آيةٌ أُخرى من آيات الله! هذا القلب الجليل.. فاللهم صلِّ وسلّم على عبدك ونبيّك مُحمد!




وبعدُ.. فأرواحنا تشتاق محلّها، تشتاق مكان وجودها الأوّل، فإنها تأنس بذكر الجنّة، تجد ظمأها بالقرآن، تحتاج إلى ربّها عز وجل في كُل نفس وفي كل ثانية! فإننا في هذه الدُنيا نتعرّف عن الله عزّ وجل بمحدوديتنا، فكيف بالآخرة حين يكون تمام النعيم برؤيته عزّ وجل؟! 


﴿وَیُدۡخِلُهُمُ ٱلۡجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمۡ﴾


فاللهم جنّة القُرآن، وجنّة الآخرة، وحياة مع نبيّك مُحمد ﷺ! الحمدلله ربِّ العالمين!


Comments

  1. معاني رائعة دائما يستوقفنى علامة ما لانهاية∞ وهذه العلامة توقع فى قلبي معنى الخلود وتعنى ما لا يدركه البشر ولكن الله يدركه لا اعنى بها الأرقام المجردة فهى افتراصات للدراسة ولكن اعنى بها المعانى التى لا تنتهى بارك الله فيك ونفع بك يارب

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

أقربُ إلى أَبِينَا آدم

  أمام كُل الأقوال التي تدّعي أن الإنسان يقوم بمُفردِه، يأبى الواقع مرارًا إلا أن يُثبت ضعف الإنسان وحاجته إلى ركُنٍ شديد يأوي إليه، فالضعفُ أمر مكتوب على الإنسان، وما أشدَّ الضعف حين لا يجد الإنسان من يستعين به! لكن حين يعرف ربّه الغني، هُنا يتفتح من الجلال والجمال ما يجعل للضعفِ حلاوة، يحيى بها العبد راضيًا مُشتاقًا. إن إدراك الضعف هو أولى الخطوات ليتعرّف الإنسان إلى ربّه، فإن أبانا آدم -عليه السلام- بضعفه الأوّل -حين أكل من الشجرة- تعرّف إلى الله -عز وجل- باسمه "التواب الرحيم"، يقول الله تعالى ﴿فَتَلَقَّىٰۤ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَـٰتࣲ فَتَابَ عَلَیۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِیمُ﴾ وهكذا علّمنا أبونا!  وحول هذا يقول ابن القيّم -رحمه الله- (فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ الأسماء الْحسنى، فَمن أسمائه الغفور الرَّحِيم، الْعَفو الْحَلِيم، الْخَافِض الرافع، الْمعز المذل، المحيي المميت، الْوَارِث الصبور، وَلَا بُد من ظُهُور آثَار هَذِه الأسماء؛ فاقتضت حكمته سُبْحَانَهُ أن ينزل آدم وَذريته دَارًا يظْهر عَلَيْهِم فِيهَا أثر أسمائه الحُسنى، فَيغْفر فِيهَا لمن يَشَاء، وَيرْ

العبودية والتربية

مُقدّمة: في كل أمر من أمور حياتنا ومع واقعنا المُعاصر، لا بد أن نسأل "لماذا؟" حتى وإن بدا الأمر بدهيًّا، وذلك لأننا نحمل الكثير من الشوائب الفكرية المتخلطة، سواء من ثقافة المجتع، أو من الفكر الغربي، أو من غيرهما. وسؤال "لماذا" ضروري لأنه يكشف للإنسان المكرزية التي ينطلق منها، ومتى وضع الإنسان يده عليها فهم الكثير من الأفعال التي يرتكبها، فهل الإنسان المُعاصر مركوزًا إلى ركن شديد يأوي إليه؟ أم أنه في حالة لزجة لا تعرف الحدود والبدايات؟ النقطة الثانية في سؤال "لماذا" لأنه يفضح أو يكشف، يكشف أنّه لا حقائق إلّا حقيقة واحدة -الركن الشديد- وهي الحقيقة التعبديّة، الحقيقة التي يحيا من أجلها الإنسان ويموت عليها، لذا دعنا نسأل سؤال "لماذا" فيما يخص موضوعنا اليوم ألا وهو التربية، لماذا نُربّي؟ لو قال قائل حتى يكون مجتمعنا مجتمعًا فضيلًا، يستمتع بالأمان، لسألناه ثم بعد ذلك؟ يعيش سعيدًا.. ثم بعد ذلك؟ اااه.. نموت، وبالتالي يكشف الموت حقيقة الأشياء، ماذا بعد الموت إذًا؟ هل أديت المطلوب في التربية والذي ينفع لما بعد الموت؟ وبالتالي الإنسان العاقل، هو الذي تكون إ