Skip to main content

العبودية والتربية


مُقدّمة:

في كل أمر من أمور حياتنا ومع واقعنا المُعاصر، لا بد أن نسأل "لماذا؟" حتى وإن بدا الأمر بدهيًّا، وذلك لأننا نحمل الكثير من الشوائب الفكرية المتخلطة، سواء من ثقافة المجتع، أو من الفكر الغربي، أو من غيرهما.

وسؤال "لماذا" ضروري لأنه يكشف للإنسان المكرزية التي ينطلق منها، ومتى وضع الإنسان يده عليها فهم الكثير من الأفعال التي يرتكبها، فهل الإنسان المُعاصر مركوزًا إلى ركن شديد يأوي إليه؟ أم أنه في حالة لزجة لا تعرف الحدود والبدايات؟

النقطة الثانية في سؤال "لماذا" لأنه يفضح أو يكشف، يكشف أنّه لا حقائق إلّا حقيقة واحدة -الركن الشديد- وهي الحقيقة التعبديّة، الحقيقة التي يحيا من أجلها الإنسان ويموت عليها، لذا دعنا نسأل سؤال "لماذا" فيما يخص موضوعنا اليوم ألا وهو التربية، لماذا نُربّي؟

لو قال قائل حتى يكون مجتمعنا مجتمعًا فضيلًا، يستمتع بالأمان، لسألناه ثم بعد ذلك؟ يعيش سعيدًا.. ثم بعد ذلك؟ اااه.. نموت، وبالتالي يكشف الموت حقيقة الأشياء، ماذا بعد الموت إذًا؟ هل أديت المطلوب في التربية والذي ينفع لما بعد الموت؟

وبالتالي الإنسان العاقل، هو الذي تكون إجاباته متكاملة، لا تظهر كلمة "ااه" أو "نعم؟" أمامه، وبالتالي البحث عن مُراد الله عز وجل في أفعالنا، أو في كل أمر يجعل أعمالنا حقيقية، ومعنى حقيقية أنها تقوم على مركزيّة حقيقة تصلح كإجابة على كل التساؤلات، وخصوصًا سؤال "لماذا؟"

 

لماذا نُربي إذًا؟

ما المركزية التي ننطلق عليها لأجل التربية؟

الإجابة بكل بساطة: نُربي لأن الله عز وجل أمرنا بهذا، ثم كل الثمار الأُخرى الحاصلة تأتي فيما بعد، والثمرة لا تكون هدفًا لذاتها، لأنه كما في المثال الذي ضربناه، الثمرة لا تكوّن مركزًا، أما لو كان المركز تعبّدًا لله ضبطنا كل الموازين، فالثمار في إجابتنا ما هي إلا "عاجل بُشرى المؤمن"، هي دوافع ورحمات يرزقنا الله بها حتى يهون علينا الطريق، ونأمّل للثمرة الأجل والأعظم وهي رضا الله عزّ وجل عنّا.


العبودية ومعايير التربية:

هذه الإجابة "نُربي لأن الله عز وجل أمرنا بهذا" تضبط لنا الموازين، خصوصًا من ناحية ما هي معايير التربية التي أربي بها أبنائي؟ هل المطلوب منّي أن أربي أبنائي على أن يكونوا بشر تتجلّى فيهم قيم الحب والسلام واللطف فحسب؟ أم المطلوب منّي أن أحفظ لهم متى يغضبون، متى يشتدون؟ فالقيم الأولى والتي يتجه لنا عالمنا اليوم قيم تجعل العالم في حالة من السيولة، حالة الـلا معيار، أما تقدير الخصال الأخرى ووضعها في موضعها هو عين الحكمة.

هل المطلوب أن يكون جميع أولادي أطباء، مهندسون، وغيرهم؟ "كليات قمّة كما يُدّعى"، أم المطلوب أن يكون مُقدّرًا لقيمة العلم عمومًا، بكل عُلم يُصلح حال الناس في دينهم ومعاشهم؟

هل المطلوب أن يكون جميع أولادي عُلماء، شيوخ؟ أم المطلوب أن يكون موّحدًا لله يقوم بأمره على الوجه الذي يرضاه ربه؟ لا على الوجه الذي أرضاه -كأم وأب- أو يرضاه المُجتمع.

كل جوانب الإنسان، الإيمانية، النفسية، المجتمعية، الجسدية، السلوكية، ننظر فيها كيف نكوّن فيها عبدًا لله، كيف نكوّن فيها إنسانًا يستجيب لأمر ربّه في كل جوانبه، وذلك لأن العبودية أمر في متسع كل إنسان، لكن ما نرضاه وما نتمناه ليس في متسع كل إنسان، هنا نبدأ في فهم ما هي الأمور التي تدخل في نطاق وسع الإنسان، وبالتالي لا نُحمّل أبناءنا فوق طاقتهم، فيتمتعون بإنسانيتهم، ولا يلقون اللوم الشديد على أنفسهم أمام عجزِهم عن أمور ليس في نطاق وسعهم، ومتى رأينا أحد الأبناء يستجيب في أمر من الأمور أكثر، بذلنا معه، وشجعنّاه، فإننا نُعينه فيما يصلح له، لا ما يصلح لنا.


مرّة أخرى الغرض من التربية هو تحقيق مُراد الله عز وجل في أبنائنا، أن ننشأهم نشأه تجعلهم يتقبّلون الحق بسهولة، نشأة تحفظ عليهم فطرتهم، فلو تأملنا في الحديثين "كل مولود يولد على الفطرة.." والحديث "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا.." نجد أن النشأة لها دور كبير جدًا في أن يكون الإنسان إنسانًا سويًّا، فليس كل مُتديّن أو مُلتزم -كما تُستخدم الكلمة- مُستقر بداخله، بل هناك حالة تسبق قبول الحق، إلا أنه بلا شك فيه خير.

فالصحابة رضوان الله عليهم لو تأملنا فيهم، لوجدنا أن فيهم بالفعل الصفات النبيلة التي كانت في الجاهلية، وحين دخل الإسلام.. الإسلام جوّدها، ووظفها في مكانها الصحيح، وبالتالي نشأة الذرية بطريقة سليمة قدر المستطاع تجعله يقبل داعي الإيمان بشكل أكمل وأولى.

وأرجوا ألا يفهم كلامي أن نضع الدين جانبًا ونجتهد في جعل الإنسان سويًا، فالعملية ليست عملية متتالية بل هي متوازية، فالدين يُصلح الإنسان ويقوّمه، بل إجابة سؤالنا في الأصل لا تأتي إلا بالدين.


العبودية والنتائج التربوية:

إذًا نعود مرّة لنقطة المركزية، وضبطها للكثير من الأمور، حتى النتائج. 

حسنًا الآن "أنا اجتهدت وعملت وبذلت وفي الآخر الولد طلع مش كويس" بذلت لمن؟ بذلت لله، والله عز وجل لا يُضيع أجر من أحسن عملا، فقد أديت ما عليك أمام الله، ما سيسألك الله عنه أديته، وهذا هو المطلوب منك، قد يبدو الكلام سهلًا، ولكن وجوده في أذهاننا ضروري بشكل كبير، وجوده في أذهاننا يمنعنا من قول "أنا عملت كل حاجه عشانك" ودائرة المنّ التي تُلقى على الولد حين يخرج عن المطلوب.


نأتي هنا لنقطة مهمة: لا بد أن نستحضر خلال التربية أننا نتعامل مع إنسان، له إرداته الحُرّة، وله ميوله، وله تفكيره، وله شخصه، ففكرة محاولة السيطرة أو التحكم 100%  تلغي من الطفل إنسانيته ونطاقه الحُر الذي خلقه الله به، وهذا هدف تربوي نبيل، وهو أن تنسحب سلطتنا تدريجيًا من حياة أبنائنا، انسحابًا سليمًا يستطيع أن يقوم وحده بعده، فمتى يأتي الوقت الذي يكون فيه مُكلَّفًا مُحاسبًا على أعماله، يكون مستعدًا، ولا يُفهم من كلامي أن سحب السلطة يعني تجنب الإرشاد والنصح وغيره، بل القصد أن يكون المُسلم الجديد مُسلم حُر، يحكم بميزان الله. 


من أين استقي العبودية في التربية؟

دعنا ننظر في القرآن والسنة نتأمل: ما هي مواضع التربية؟ ما هي الأسس التي تظهر واضحة في علاقة الآباء مع الأبناء؟ كيف تكون الرحمة على الأولاد "الحديث الرجل الذي كان لا يُقبّل أبناؤه"؟ كيف يُسدد الوالد حين يضبط نيته في النفقه وهو يخرج من بيته يسعى لأجل بيته؟ كيف هو الأجر في من ربّى جاريتين وأحسن إليهما؟ ما طبيعة العلاقة بين الوالد وولده من قصة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام؟ من قصة لقمان؟ من قصة يعقوب ويوسف؟ وغيرها من الأمور التي تضبط الموازين، وتضبط الرؤى لتكون متفقة مع العبودية، وتكون متفقه مع السياق الإنساني.


والآية الكريمة ﴿كَلَّاۤ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَیَطۡغَىٰۤ ۝٦ أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰۤ﴾ في سورة العلق -متعلق بشيء- في سورة اقرأ، فمتى استشعر الإنسان أنه في غنى معرفي او أدواتي، فهذه مرحلة الطغيان، وهذا ما نراه مُشاهدًا في عالمنا الذي كثر فيه القيل والقال، وعلم النفس، علم التربية الإيجابية، والكثير من الأمور ولكنّها خالية من المركزية، ولو وظفت كل هذه العلوم لتكون متطابقة مع المركزية والغاية أدركت الصحيح منها والسقيم.


Comments

Popular posts from this blog

الجمال الخالص

  تقول لي:  أُحب الكمال والجمال في كل أمر، ولزمنٍ طويل عرّفت الكثير من الأشياء على غير تعريفها لأرى جانبها الجمالي فحسب، ونفرت من حقيقتها، كنت أريد الأيام أكثر هدوءًا وجمالًا، فكانت هذه الطريقة الأمثل؛ إلا أن الواقع يأبى الزيف، ومهما بدت الأمور وردية كما نحلم ونتمنى، سندرك يوماً أن النقص والعيب جزء لا ينفك عن هذه الدنيا، بل بهما تتم الصورة وتكتمل، وبهما يُدرك المرء منّا حقيقة كل شيء أقوى وأشد. ولكنّي عرفتُ ما هو سر الجمال في النقص والعيب! إن النقص والعيب يزيدان القلب تعلقًا بما هو تام وكامل على وجه الحقيقة، ويظل الإنسان يبحث ويلتفت لتهدأ نفسه حين يلتصق بالكامل الجميل، فإذا وجده هان عليه كل شيء، إن الفجوة التي يخلقها النقص والعيب في نفوسنا يدفعنا باحثين عن الجمال التام الحقيقي، باحثين عن الجمال المُطلق الذي لا تشوبه شائبة. حتى وجدّت روحي بين القرآن! إنه القرآن، سد ظمأي، وملأ روحي، وأتم نقصي، القرآن جليل عظيم! يرى فيه العبد كمال كل شيء، ويرى به العبد حقيقة كل شيء، ويدرك تمام القُرآن وكماله أمام نقص الدنيا، فيأنس بالنعيم المطلق في الدنيا بصحبة القرآن، في سلوى منه في الأنس بالنعيم...

المُطلق المُدرك

  بين اتساعين: يقول الله عزّ وجل ﴿وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ سَنُدۡخِلُهُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۤ أَبَدࣰاۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣰّاۚ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِیلࣰا﴾ حين يعيش القلب في النعيم الأخروي، ويتقلّب بين مشاهد الجِنان.. تأتي خاطرة مُلّحة، هذه الخاطرة تتساءل مُتعجّبة "للأبد؟" "خالدين فيها؟" فكلمة الأبد أو الخلود كلمات لها مُطلق لا يُدركها العقل الدنيوي المحدود، تأتي كلمة الأبد ولا يستطيع العقل استيعاب اللاحد! لا يستطيع التصوّر إلا بتوّقف الزمن! ثم إذا ما جاء وصف الجنّة وجدنا الحديث القُدسي الذي يقول اللهُ تعالى فيه: "أعددتُ لعبادي الصالحينَ ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ، ذخرًا بَلْهَ ما أطلعتُهم عليه، اقرأوا إن شئتم (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوْا يَعْمَلُونَ)"، فيقف العقل مرةً أُخرى أمام "ولا خطر على قلب بشر" فيحاول أن يتصوّر الجمال، ويتخيّله، ويدمجه، فلا يجد سبيلًا إلا بما يعرفه، فكيف بما لا...

وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ

  إنّ القُرآن كلام ربّ العالمين! ولو أدرك كل إنسان معنى هذه الجُملة حقًّا لما مرّت آية إلا وانتبه! وقال بقلبه "كلام ربّي! كلام ربّي!"، فهذا حال المُحب البعيد، وسُلوان شوقِه، فبالقُرآن صار يتصبّر، ويُبصر ما غاب عن أنظار أهل الدُنيا، فيعرف ربّه الكريم من كلامه سُبحانه!  إنك تعرفُ ربّك حين ترى حكمته، وترى معيّته سُبحانه مع عباده المؤمنين، وحتى تُدرك ذلك تخيّل أنك لا تعرف نهاية كل قصّة قُرآنية، تخيّل أنّك تعيش مع أصحابها حدثًا بحدث، ستتعجّب من أمرين: الأول: أنه ما كنت تتخيّل أن تلك البداية سيكون هذه نهايتها. الثاني: أن الدافع الوحيد لاستمرار الصالحين؛ هو إيمانهم الكامل بالله وبحكمته، إيمانًا مُفضيًا للتسليم التام! ترى ذلك كل جُمعة، حين تقرأ سورة الكهف، فتقرأ قوله تعالى﴿أَمۡ حَسِبۡتَ أَنَّ أَصۡحَـٰبَ ٱلۡكَهۡفِ وَٱلرَّقِیمِ كَانُوا۟ مِنۡ ءَایَـٰتِنَا عَجَبًا ۝٩ إِذۡ أَوَى ٱلۡفِتۡیَةُ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ فَقَالُوا۟ رَبَّنَاۤ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةࣰ وَهَیِّئۡ لَنَا مِنۡ أَمۡرِنَا رَشَدࣰا﴾  كان هذا الدعاء آخر ما فعله الفتية قبل دخولهم الكهف! دعوا...