Skip to main content

متى أعود؟

 


املأ عينك جيّدًا، وخذ منها أنفاسًا حتى تملأ صدرك من هوائها، لا تُقدّم قدمًا أمام قدمٍ حتى تُجدد في قلبك أنه قد تتلاقى، واملأ عينك مرّة أُخرى، فهذه المرة صار ما كان معلومًا مُبهما، حمّل فؤادك من الشعور حتى يمشي في هذه الدُنيا دون أن يسقط! بأمر الله!

منذُ ولادتي وكانت أول أنفاسي ليست في الأرض التي تحملها جنسيتي، ونشأت في بيتٍ عُرف عنه السفر، عُرف عنه طوال الغيبة، عُرف عنه نُدرة اجتماع أفراده، فحملتُ وأخوتي في صدورنا شعورًا باغتراب دائم، إلا أن الله عزّ وجل يختار لنا الجِوار، فينبتُ لحمي وتختلط روحي بأنوار المدينة النبويّة، ليكون لي نصيبًا في الكثير من الخير فيها بفضله وكرمه، تعلّمتُ العلم من أستاتذها، وقرأت القُرآن على شيوخها -بفضل الله وكرمه-، فكانت سلوانا وإن كُنّا لسنا بين أهلينا.

كُنت كُلما سافرتُ عنها أعرف موعد عودتي إليها، فكان سكون قلبي هو علمه "أننا سنعود"، إلا أن هذه المرة ليست ككل مرّة، سأبتعد يا مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أعلم متى أعود!

هل لقلبي أن يسكن؟

هل لعقلي أن يهدأ؟

لا أدري!

سأحكي عنكِ لأني لا أُطيق ما في صدري، سأتكلم معكِ، سأحدّثُ جدرانك، وكل ما فيكِ ليشهد لي.. أنني أُحبّك! أحبّك جدًا يا مدينة رسول الله! صلوات ربي وسلامه عليه.


المدينة المنوّرة.. اسمها فقط يُهديك نفحات الرحمة، أرضٌ كريمة، تُكسبك من نورها دون أن تطلب! وكأنك تعود إلى أرضك ولو لم تعش فيها يومًا قبل، يُدركها الفؤاد بالشوق وهو فيها، وهو أمر عجيب! تراك تشتاق لها وأنت لم ترحل عنّها، تحنّ لها وأنت بين نخيلها، وكأنها أم الأرض، كأن التراب الذي خُلقت منه يحنُّ لها، لأرض المدينة فحسب!

وكيف لا؟! وفي ترابها خير البشر! فحلّت البركة والأنوار في كل زواياها، وكأنّك فجأة تعرف الجنّة، كُلما ضاقت بك الأرض زُرت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجلس أمام قبره الشريف لتُجدد العهد، لتُجدد الذِكرى، فتقول بقلبك "على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم" تُلقي السلام، وتتمنّى أن تسمع ردّه.. السلام عليك يا رسول الله! نشهد أنك قد بلّغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمّة وجاهدت في الله حق الجهاد! ثم السلام على صاحبيه رضوان الله عليهما، وتختم سلامك "جزاكما الله عنّا وعن الإسلام خير الجزاء".


كل شيء في المدينة النبوية مُختلف!

إن القرآن الذي يُتلى في المدينة النبويّة ليس كأي قُرآن يُتلى، إنّه يُتلى وبيينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم، إنه متى يقرأ الإمام ترى الآيات والأماكن، وكأنّك تنظر بقلبِك لمجلسٍ كان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتلو الآيات على صحابته، فيؤمنوا ويستجيبوا فورًا، ثم نأتي نحن -الذين جاءو من بعدهم- نتلوا القُرآن بقلوبٍ تأنُّ أنينًا لا تسمعه الآذان، وكأنها تقول بصوتٍ خافت "على ما تركتم، على ما تركتم" ولكن لسنا كمثلكم، نُحاول ونجاهد في اغترابٍ زمني.

هذا النعيم والقُرب.. كيف أجدهُ عند رحيلي وابتعادي؟


علّه استخدامًا آخر في مكانٍ غير المكان الذي كنتُ استقي منهُ إيماني، وكانت روحي تُلّحق فيه مُستبشرة، رُبما عليّ الآن أن أعبّر عن حُبي بحركةً لا بالتصاق، كالطفل الذي يخط خطواته الأولى خارج بيته ومسكنه، حركة المُحبين والشوق يأخذ من أرواحهم، حركةً وقودها الشوق وألم الفِراق، حركةً كالتي تحرّكها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعد وفاته، حركةً غريبة عن الدنيا، حركة تخطو إلى الآخرة!


ولعلّ الآن السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يكون أمام قبِره الشريف، ولكنّها صلوات مُتتابعات تُذكّرني بالعهد والجِوار.

في المدينة كان الإيمان يتحرّك فينا، في غيرها لا بد أن نتحرك بالإيمان.

في المدينة كان القُرآن يُتلى بمشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، في غيرها يُتلى القرآن على واقعنا ليعود بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته.

في المدينة كان الشوق يُحركنّا تجاه مسجده صلى الله عليه وسلم، في غيرها يُحركنا الشوق للعمل بسُنّته صلى الله عليه وسلم.

في المدينة كُنا نُسلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام قبره، في غيرها نُصلي عليه صلى الله عليه وسلم.


الآن اغترابٌ فوق اغتراب الدُنيا! فاللهم هوّن عليّ اغترابي!

Comments

Popular posts from this blog

الجمال الخالص

  تقول لي:  أُحب الكمال والجمال في كل أمر، ولزمنٍ طويل عرّفت الكثير من الأشياء على غير تعريفها لأرى جانبها الجمالي فحسب، ونفرت من حقيقتها، كنت أريد الأيام أكثر هدوءًا وجمالًا، فكانت هذه الطريقة الأمثل؛ إلا أن الواقع يأبى الزيف، ومهما بدت الأمور وردية كما نحلم ونتمنى، سندرك يوماً أن النقص والعيب جزء لا ينفك عن هذه الدنيا، بل بهما تتم الصورة وتكتمل، وبهما يُدرك المرء منّا حقيقة كل شيء أقوى وأشد. ولكنّي عرفتُ ما هو سر الجمال في النقص والعيب! إن النقص والعيب يزيدان القلب تعلقًا بما هو تام وكامل على وجه الحقيقة، ويظل الإنسان يبحث ويلتفت لتهدأ نفسه حين يلتصق بالكامل الجميل، فإذا وجده هان عليه كل شيء، إن الفجوة التي يخلقها النقص والعيب في نفوسنا يدفعنا باحثين عن الجمال التام الحقيقي، باحثين عن الجمال المُطلق الذي لا تشوبه شائبة. حتى وجدّت روحي بين القرآن! إنه القرآن، سد ظمأي، وملأ روحي، وأتم نقصي، القرآن جليل عظيم! يرى فيه العبد كمال كل شيء، ويرى به العبد حقيقة كل شيء، ويدرك تمام القُرآن وكماله أمام نقص الدنيا، فيأنس بالنعيم المطلق في الدنيا بصحبة القرآن، في سلوى منه في الأنس بالنعيم...

المُطلق المُدرك

  بين اتساعين: يقول الله عزّ وجل ﴿وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ سَنُدۡخِلُهُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۤ أَبَدࣰاۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣰّاۚ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِیلࣰا﴾ حين يعيش القلب في النعيم الأخروي، ويتقلّب بين مشاهد الجِنان.. تأتي خاطرة مُلّحة، هذه الخاطرة تتساءل مُتعجّبة "للأبد؟" "خالدين فيها؟" فكلمة الأبد أو الخلود كلمات لها مُطلق لا يُدركها العقل الدنيوي المحدود، تأتي كلمة الأبد ولا يستطيع العقل استيعاب اللاحد! لا يستطيع التصوّر إلا بتوّقف الزمن! ثم إذا ما جاء وصف الجنّة وجدنا الحديث القُدسي الذي يقول اللهُ تعالى فيه: "أعددتُ لعبادي الصالحينَ ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ، ذخرًا بَلْهَ ما أطلعتُهم عليه، اقرأوا إن شئتم (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوْا يَعْمَلُونَ)"، فيقف العقل مرةً أُخرى أمام "ولا خطر على قلب بشر" فيحاول أن يتصوّر الجمال، ويتخيّله، ويدمجه، فلا يجد سبيلًا إلا بما يعرفه، فكيف بما لا...

وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ

  إنّ القُرآن كلام ربّ العالمين! ولو أدرك كل إنسان معنى هذه الجُملة حقًّا لما مرّت آية إلا وانتبه! وقال بقلبه "كلام ربّي! كلام ربّي!"، فهذا حال المُحب البعيد، وسُلوان شوقِه، فبالقُرآن صار يتصبّر، ويُبصر ما غاب عن أنظار أهل الدُنيا، فيعرف ربّه الكريم من كلامه سُبحانه!  إنك تعرفُ ربّك حين ترى حكمته، وترى معيّته سُبحانه مع عباده المؤمنين، وحتى تُدرك ذلك تخيّل أنك لا تعرف نهاية كل قصّة قُرآنية، تخيّل أنّك تعيش مع أصحابها حدثًا بحدث، ستتعجّب من أمرين: الأول: أنه ما كنت تتخيّل أن تلك البداية سيكون هذه نهايتها. الثاني: أن الدافع الوحيد لاستمرار الصالحين؛ هو إيمانهم الكامل بالله وبحكمته، إيمانًا مُفضيًا للتسليم التام! ترى ذلك كل جُمعة، حين تقرأ سورة الكهف، فتقرأ قوله تعالى﴿أَمۡ حَسِبۡتَ أَنَّ أَصۡحَـٰبَ ٱلۡكَهۡفِ وَٱلرَّقِیمِ كَانُوا۟ مِنۡ ءَایَـٰتِنَا عَجَبًا ۝٩ إِذۡ أَوَى ٱلۡفِتۡیَةُ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ فَقَالُوا۟ رَبَّنَاۤ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةࣰ وَهَیِّئۡ لَنَا مِنۡ أَمۡرِنَا رَشَدࣰا﴾  كان هذا الدعاء آخر ما فعله الفتية قبل دخولهم الكهف! دعوا...