Skip to main content

القرآن... بين قلبين


 
إن الأُم متى غابت عن طفلها، أخذ ثيابها ليشمّها وينام فيها سلوى شوقه الذي لا يهدأ.. ولله المثل الأعلى! هكذا الشعور تجاه القُرآن، كلام الله الذي نُقلّب فيه أنفسنا، حتى نلقى ربنا، والعجيب.. أن ثياب الأم يذهب ريحها عنها عندما تمر الأيام، لكن القُرآن كلما اقتربت منه زاد النور في صدرك، وزادت بركاته، وزادت نفحاته، فيكون زادك في رحلتك في الدنيا وموقدًا للشوق للآخرة.

إن القُرآن عجيب.. عجيب يا صاحبي..

في مصاحبته أنوارٌ لا تنتهي، أكوانٌ واسعة، ومعانٍ لا يشملها قلبك لجلالها، وأشد ما فيه من العجب أن يُعطيك على ما يُناسبك.. حتى لا تُثقل، حتى يأخذ بيدك إلى فتوحاتٍ أُخرى، بآفاقٍ أُخرى، ولكن كل شيء بقدر.


كان هذا في ليلةٍ من ليالي رمضان المُباركة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسّلم، فيأتي ذلك الشعور الطيّب، تلك الرحمة، تلك النفحة من نفحات رمضان، فيستشعر بها الإنسان أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بيننا بجسده الشريف في قبره المُبارك، فيبدأ بالاستماع إلى الآيات بروحٍ أُخرى، بروحٍ تتخيّل أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بيننا، كان ذلك بداية مشاعرٍ لا تنتهي!

تبدأ بتلّقي القُرآن وكأنك تعيش مع الصحابة -رضوان الله عليهم- فتُمر الآيات وتُبصر بل وتقترب جيّدًا من هذه القلوب الطيّبة، التي تفاعلت مع كلام الله فكانت خير جيل عرفه البشر. 

فاتخيّل.. ويتحرك قلبي.. كيف حال الصحابيّات -رضوان الله عليهن- وهن يستمعن لسورة النساء؟ وكيف يضمن الله عز وجل حقوقهن؟ اتخيّل في سورة آل عمران كيف امتلأت هذه النفوس الطيّبة بالدروس الإيمانيّة الحقيقة في غزوة أُحد؟ وكيف أُعيد تشكيلها بنورٍ من الله؟

حتى جاء اليوم وتلا الإمام فيه سورة الأنعام.. وقد كانت وطئتها أعظم، ولأن سورة الأنعام مليئة بقول الله عز وجل لرسوله "قُل" تغيّر مسار تخيّلي، ونظرت إلى جهة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلّم.. ثم كان السؤال.. كيف كان اتسّاع قلب رسول الله؟!  

تخيّلت.. كيف كان يتلّقى القُرآن؟ كيف كانت مشاعره؟ كيف كان صلى الله عليه وسلم وهو يسمعُ من جبريل قول المولى تبارك الله وتعالى "قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ"  عُد ثانيةً.. تخيّل أن المُتلّقي رسول الله.. هو أول من سمع كلام ربّه! تخيّل كيف تلّقى رسول الله صلى الله عليه وسلّم كلام ربّه، لا ليس كما نتلّقى نحنُ، أو بالمعنى الصحيح ليس كما نفهم نحنُ، فلم نصل لمرحلة التلّقي بعد.

يا الله! يا الله! "قُل" هُنا على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليست كما هي على قلبي وقلبك.. قُل هنا بعدها الكثير.. بعدها الأذى، بعدها السُخرية، بعدها البُعد عن الوطن والأهل، بعدها القتال، ولكنّه صلى الله عليه وسلّم قالها.. قالها وقد فعل، ونحنُ نشهد!


ثم تأتي سورة الأنفال "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" تخيّل كيف تلّقى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلّم هذه البُشريات، اجمع كل الآيات التي يُبشّر الله عزّ وجل فيها نبيّه، واسأل كيف اتسّع قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل هذه المعاني الجليلة! ليس سؤالًا استنكاريًّا والعياذ بالله، بل سؤلًا محشوًّا بالعجب والإجلال، سؤالًا لا تنّفك عنه الدهشة، وكأنه يرى آية أخرى من آيات الله في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هي آية.. آية ولا شك!


وتأتي سورة التوبة فيقرأ الإمام ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ﴾ يا الله! هُنا يُعاتب الله نبيّه، ولكنه ما ألطفه من عتاب.. كانت سورة التوبة من أواخر السور، كانت قُرب أجله -صلى الله عليه وسلّم-، فانظر وتأمّل كيف يُخاطب الله عز وجل نبيّه، وكيف تلّقاها -صلى الله عليه وسلم-، ففي سورة الأنفال وسورة عبس، هناك صيغ أُخرى من العتاب، فتأمّل حال رسول الله، وكيف كان قلبه، وهو يتلّقى كل تلك الآيات، تعرفه جيّدًا حينما دخل عليه عُمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- فوجده هو بأبي وأمي وأبو بكر يبكيان فيسألهما: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ» -وقد كانت شجرة قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلّم- هنا هذه اللحظات كانت في آيات سورة الأنفال ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ يتجلّى لك.. "وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ"


وتتوالى السور.. وترى الآيات، وتحاول مليًّا.. كيف كان حال نبيّنا -صلى الله عليه وسلم- وهو يتلّقى الآيات، تُدرك جيّدًا معنى قوله تعالى "إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا" وبرحمة من الله عزّ وجل، أدّاه رسول الله، أدّى الأمانة وبلّغ الرسالة.


تخيّل كيف كان قلب رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين أنزل الله عز وجل سورة القصص، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يستمع كيف طُرد موسى عليه السلام وكيف عاد، كيف كانت مشاعره؟ كيف كان شوقه لموسى عليه السلام؟ كيف كان يأنس رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنبياء الله! 

ثم يقول الله تعالى "إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ۚ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَىٰ وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ" هذه البُشرى يا رسول الله! هذه البُشرى فلا تحزن، إنك ستعود لمكة..


وتأتي سورة الشورى ليُذّكر الله نبيّه -صلى الله عليه وسلم- تلك النعمة الجليلة، أن اصطفاه برسالته "وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" 

مع كل آية يتعجّب الفؤاد.. يتعجّب من اتسّاع قلب رسول الله صلى الله عليه وسلّم!


والقلب في حيرة، والعقل عاجز عن التصوّر، ولكن تأتي سورة الشُعراء لتؤكد المعنى "وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ ۝ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ۝ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ" 

هذه الكلمة تحديدًا "على قلبك" إنه قلبٌ شريف في عناية اللطيف الخبير.


هكذا مع كل سورة، ومع كل آية.. وآفاق تلّقي رسول الله صلى الله عليه وسلم غير آفاقنا بلا شك، فتخيّل ما تحدثه الآية حين تلمس قلبك من نورٌ وبشرى، تستطيع أن تتحرك بها إلى السماء، تخيّل أضعاف هذا بل آلاف الأضعاف كان في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

لم ترتبط مُعجزات القُرآن في كلماته فحسب، بل كانت معجزاته في كل شيء متعلقٌّ به، في نزوله، في قلب رسول الله، في تلّقي الصحابة له، في انقلاب التاريخ، ونشأة العلوم، فينا نحنُ.. حين تُباشر الآية قلب أحدنا، فيُبصر النور في قلبه!


وكيف للقلب أن يصبر على الدُنيا وفيه هذا القدر من الشوق؟ كيف للقلب أن يسير مرّة أُخرى في تلك الحياة بعد أن عرف الحقيقة ورضي بها؟ إنه القُرآن.. سلوى المُحبّين حتى اللقاء!


Comments

Popular posts from this blog

الجمال الخالص

  تقول لي:  أُحب الكمال والجمال في كل أمر، ولزمنٍ طويل عرّفت الكثير من الأشياء على غير تعريفها لأرى جانبها الجمالي فحسب، ونفرت من حقيقتها، كنت أريد الأيام أكثر هدوءًا وجمالًا، فكانت هذه الطريقة الأمثل؛ إلا أن الواقع يأبى الزيف، ومهما بدت الأمور وردية كما نحلم ونتمنى، سندرك يوماً أن النقص والعيب جزء لا ينفك عن هذه الدنيا، بل بهما تتم الصورة وتكتمل، وبهما يُدرك المرء منّا حقيقة كل شيء أقوى وأشد. ولكنّي عرفتُ ما هو سر الجمال في النقص والعيب! إن النقص والعيب يزيدان القلب تعلقًا بما هو تام وكامل على وجه الحقيقة، ويظل الإنسان يبحث ويلتفت لتهدأ نفسه حين يلتصق بالكامل الجميل، فإذا وجده هان عليه كل شيء، إن الفجوة التي يخلقها النقص والعيب في نفوسنا يدفعنا باحثين عن الجمال التام الحقيقي، باحثين عن الجمال المُطلق الذي لا تشوبه شائبة. حتى وجدّت روحي بين القرآن! إنه القرآن، سد ظمأي، وملأ روحي، وأتم نقصي، القرآن جليل عظيم! يرى فيه العبد كمال كل شيء، ويرى به العبد حقيقة كل شيء، ويدرك تمام القُرآن وكماله أمام نقص الدنيا، فيأنس بالنعيم المطلق في الدنيا بصحبة القرآن، في سلوى منه في الأنس بالنعيم...

المُطلق المُدرك

  بين اتساعين: يقول الله عزّ وجل ﴿وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ سَنُدۡخِلُهُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۤ أَبَدࣰاۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣰّاۚ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِیلࣰا﴾ حين يعيش القلب في النعيم الأخروي، ويتقلّب بين مشاهد الجِنان.. تأتي خاطرة مُلّحة، هذه الخاطرة تتساءل مُتعجّبة "للأبد؟" "خالدين فيها؟" فكلمة الأبد أو الخلود كلمات لها مُطلق لا يُدركها العقل الدنيوي المحدود، تأتي كلمة الأبد ولا يستطيع العقل استيعاب اللاحد! لا يستطيع التصوّر إلا بتوّقف الزمن! ثم إذا ما جاء وصف الجنّة وجدنا الحديث القُدسي الذي يقول اللهُ تعالى فيه: "أعددتُ لعبادي الصالحينَ ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ، ذخرًا بَلْهَ ما أطلعتُهم عليه، اقرأوا إن شئتم (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوْا يَعْمَلُونَ)"، فيقف العقل مرةً أُخرى أمام "ولا خطر على قلب بشر" فيحاول أن يتصوّر الجمال، ويتخيّله، ويدمجه، فلا يجد سبيلًا إلا بما يعرفه، فكيف بما لا...

وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ

  إنّ القُرآن كلام ربّ العالمين! ولو أدرك كل إنسان معنى هذه الجُملة حقًّا لما مرّت آية إلا وانتبه! وقال بقلبه "كلام ربّي! كلام ربّي!"، فهذا حال المُحب البعيد، وسُلوان شوقِه، فبالقُرآن صار يتصبّر، ويُبصر ما غاب عن أنظار أهل الدُنيا، فيعرف ربّه الكريم من كلامه سُبحانه!  إنك تعرفُ ربّك حين ترى حكمته، وترى معيّته سُبحانه مع عباده المؤمنين، وحتى تُدرك ذلك تخيّل أنك لا تعرف نهاية كل قصّة قُرآنية، تخيّل أنّك تعيش مع أصحابها حدثًا بحدث، ستتعجّب من أمرين: الأول: أنه ما كنت تتخيّل أن تلك البداية سيكون هذه نهايتها. الثاني: أن الدافع الوحيد لاستمرار الصالحين؛ هو إيمانهم الكامل بالله وبحكمته، إيمانًا مُفضيًا للتسليم التام! ترى ذلك كل جُمعة، حين تقرأ سورة الكهف، فتقرأ قوله تعالى﴿أَمۡ حَسِبۡتَ أَنَّ أَصۡحَـٰبَ ٱلۡكَهۡفِ وَٱلرَّقِیمِ كَانُوا۟ مِنۡ ءَایَـٰتِنَا عَجَبًا ۝٩ إِذۡ أَوَى ٱلۡفِتۡیَةُ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ فَقَالُوا۟ رَبَّنَاۤ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةࣰ وَهَیِّئۡ لَنَا مِنۡ أَمۡرِنَا رَشَدࣰا﴾  كان هذا الدعاء آخر ما فعله الفتية قبل دخولهم الكهف! دعوا...