Skip to main content

رسائلي | عن القُرآن

 



الرسالة الأولى

سلامُ الله عليكَ صديقي البعيد..

ما زالت وصيّتي إليك في كُل كلماتي الهادئة..

عليك بالقُرآن..

يا صديقي في كُل مرّة أقول لك "عليك بالقرآن" يكونُ قلبي في أضعف حالاتِه وأقوى آلامِه، لكن يأتي القُرآن هاديًا ومُطمئنًا ونصيرا، يأتي القُرآن ليجعل قلوبنا أكثرُ اتسّاعًا وأعظم قدرا، يجعلنا نُبصرُ كُل الأشياء بشكلٍ آخر، ما يراهُ الناس يراهُ أهل القُرآن بألف معنى وألف عِظة وفي محلٍّ صحيح وبوزنٍ سليم.

يا صديقي تسأل كُل مرّة ما غايةُ حفِظ القُرآن، أقول لك ألف مرّة إن تلاوة الآية في مشاهِد حياتك وترديد الآيات وإنزالها منازل مشاعرك من أجلّ صور المُصاحبة والأُنس، ولو سِرت في كُل هذهِ الدُنيا لتجد الصديق الذي يكون مُسددًا دومًا حين نستعين به، ما وجدّت اهدى وأرشد من القُرآن خليلًا.

يا صديقي يأتي أهل الدُنيا بالكلام تلو الكلام، وبالقضايا تلو القضايا، تتبعثر، تتشت، ويأتي القُرآن وهو كلامُ الله تعالى بآية واحدة.. واحدة فقط لو تمكّنت من قلبك لأشفقت على أهل الدُنيا، وتمنيّت لو فتحوا مصاحفهم وقرأوا كلام ربهم، فاهتدوا، وأبصروا، وتكّنوا.

يا صديقي نقوم ونقعد، وتأخذنا الدُنيا بين الحين والآخر، وننسى، ونسقط، لكن عاهدنِي أن تُذكّرني بالقُرآن، أن تقول لي دومًا "عليكِ بالقُرآن"


الرسالة الثانية

تعلّمنا أن الإنسان في حقيقته -خارج الدُنيا- مخلوقٌ خالد، وأن الموت ما هو إلا محطة للانتقال من دار الدُنيا إلى دار الآخرة، والخلود كما هو معلوم = اللانهاية.


يقول الله عزّ وجل عن كلامه (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) 

وفي آية أخرى (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)

والقرآن كلام الله -عز وجل- وكلمات الله لا تنتهي ولا تخلو من علمه وحكمته، وكل كمال لازم لها، ومهما كُتبَ من الكُتب، ومهما اجتهدت العقول ما أحاطت من كلام الله شيئا.

فهذا الإنسان المحدود في الدنيا، الخالد حقيقةً، لا يكفيه أبدًا ما هو دنيوي، ومهما استزداد من متاع الأرض لن يكفيه، لأن كل ما على الأرض محدود.

يبقى الارتواء الوحيد الذي يكفي روحه هو القرآن وكل ما يتعلّق بِه، كلام الله الذي مهما أفنى الإنسان عمره فيه لن يحيطه أبدًا، فكلام الله يكفي ويزيد حاجة الإنسان، يكفي ويزيد روحه.

كلام الله زاد هذه الرحلة، يربط الإنسان المُمتد، هناك.. حيث الخلود، يربط الإنسان بحقيقته.. عند ربّه!

وأنَّ إلى ربك المنتهى


الرسالة الثالثة

سأُخبرك بسِرٍ جلل سيعرفُه الناس جميعهم قريباً..

إنني أخشى الكلمات، أُراقب عدد الكلمات التي تخرجُ في اليوم الواحد، أُراقب اختلاف منابِعها واختلاف مقاصدها،

أُراقب حال الإنسان المسكين الذي يستقبُل ما يستقبله من الكلمات في اليوم، مما سمع ومما قرأ.. ثُم اسأل..

كم عدد كلمات القُرآن من نصيبِ يومه؟

الكلمةُ يا صديقي لها ما لها من الآثار الخفيّة، الكلمة تحملُ في جوفها "أسرار" لا تنّفكُ إلا بالنفس،

لا يستطيع عقلك تحليلها بصورة سريعة فيُدرك ما وراء كُل كلمة، إلا أن النفس تنشغِل بازدحام المقال.

إنني أخشى أن تفتقد نفسي القُدرة والاستطاعة على استقبال كلمات القُرآن حق الاستقبال،

تمتلأ بالأفكار والخواطر البشريّة، وتستثقلُ كلام ربّ البريّة! أخشى كثرة المقالات والكُتب

وإن كانت نافعه جيّدة ثُم لا تتوّفر طاقتي للدخول إلى كتاب الله عزّ وجل.

﴿وَما أَنزَلنا عَلَيكَ الكِتابَ إِلّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اختَلَفوا فيهِ وَهُدًى وَرَحمَةً لِقَومٍ يُؤمِنونَ﴾ 

وهذا المُراد من كُل شيء! كله في القُرآن


الرسالة الرابعة


هذه المشاعِر التي لا تجد سبيلها بين البشر..


الإنسانُ منّا ضعيف، وأكثر ضعفِه يكون في مشاعِره، الشيء الذي يخرجُ من روحِه، هذه الروح التي منبعها وأصلها من السماء، فما يكونُ منها حقّاً خاليًا من أهواء النفس كان طاهرًا طيّبا.


فالمشاعِر الصادِقة حقّاً لا تجد لها سبيلا في واقعنا، إذ أن غمامة الزيف غطّت قلوبنا، وصار البشر لا يُدركون معاني الأشياء، وصارت الفِطر في خلل، هذه المشاعِر الصادقة تُنهك صاحِبها حين تُبذل في موضع لا يستحقّها، في موضع لا يُقدّر طهارتها وصدقها.


ولا أجد أجلّ وأرقى من القُرآن أن تُبذل له المشاعِر، كلام خالق الأرواح والنفوس، كلام ربّ العالمين، هو الأعلم بالذي خلق، جرّب أن تُخرج مشاعرك للقُرآن وراقِب جيّدًا كيف يستقبلها القُرآن، ستُدرك يقينًا أن القُرآن وحده هو الذي أعطى لطيب مشاعرك حقّها، ستجد أن القُرآن زادك فرحا، فمشاعرنا جُزء منّا إن لم نجد لها سبيلًا اثقلتنا، وما صرنا أسوياء، ولازداد علينا ثقل هذه الدُنيا وما فيها.


(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين


قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)


فبذلك فليفرحوا!




الرسالة الخامسة


المشاعِر والعوالِم الباطنيّة لمن أوسع مناطق التأمُّل، وفي تأمُّلها تجد روحك ترتقِي وتركنُ جانبًا بعيدًا عن ضغوط الدُنيا، والماديّة المُهلكة، والرتابة المُستنفِذة لما تحملُه قلوبنا.


وإن تناول القُرآن للعاطفة في القصص لمن أجلّ أوجه إعجازِه لأن الناطِق بِه هو الله عز وجل، خالقُ الحياة وخالق الموت وخالق كُل شيء، فتأمّل معي آيات ربّك..


﴿فَخَرَجَ مِنها خائِفًا يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّني مِنَ القَومِ الظّالِمينَ﴾ [القصص: ٢١]

فكلمة "خائفًا" أضفت المزيد من الانعكاس النفسي لحال سيدنا موسى عليه السلام على نفس القارِئ، فالذي يتلو القُرآن متى تعمّق في المشاعِر المُصاحبة للقصص واحوال اصحابها تلمّس مشاعرهم وارتقى بمشاعره.


﴿فَتَبَسَّمَ ضاحِكًا مِن قَولِها وَقالَ رَبِّ أَوزِعني أَن أَشكُرَ نِعمَتَكَ الَّتي أَنعَمتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَن أَعمَلَ صالِحًا تَرضاهُ وَأَدخِلني بِرَحمَتِكَ في عِبادِكَ الصّالِحينَ﴾ [النمل: ١٩]

تخيّل معي، أنه "تبسم ضاحكًا" ما كانت وُجدت؟ تخيّل جو القصص، وانعكاس مشاعِر سيدنا سليمان على نفسك، وأنك الآن في يومك هذا بمشاعرك هذة، قد اقترنت بمشاعر سيدنا سليمان منذ آلاف السنين، فما أعظم كتاب ربّك وما أجمل رسالة الله التي ارتضاها للناس كافّه -التوحيد- فارتبط المُتأخرون بالأوّلين.


﴿وَتَوَلّى عَنهُم وَقالَ يا أَسَفى عَلى يوسُفَ وَابيَضَّت عَيناهُ مِنَ الحُزنِ فَهُوَ كَظيمٌ﴾ [يوسف: ٨٤]

هذه الآية التي ما وجدُّت أحدهم يكتُم في نفسه ويصطبر إلا تردد دمعه متى سمعها أو قرأها، "وتولّى عنهم" فهذِه حركةُ الحزين الهادئة، مشهد قائم في عقلك وحده، "وقال يا أسفى" وكأنه يهمس لنفسه، "وابيضت عيناه" يصف لك القُرآن مبلغ الحُزن وأثره ثم تنتهي الآية "فهو كظيم"


﴿فَرِحينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضلِهِ وَيَستَبشِرونَ بِالَّذينَ لَم يَلحَقوا بِهِم مِن خَلفِهِم أَلّا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنونَ﴾ [آل عمران: ١٧٠]

ثم لك أن تترتقي وتُشارك أهل الجنّة مشاعرهم وحالهم، ليس فقط زمنٌ آخر بل مكان آخر غير دُنياك تلك!




Comments

Popular posts from this blog

أقربُ إلى أَبِينَا آدم

  أمام كُل الأقوال التي تدّعي أن الإنسان يقوم بمُفردِه، يأبى الواقع مرارًا إلا أن يُثبت ضعف الإنسان وحاجته إلى ركُنٍ شديد يأوي إليه، فالضعفُ أمر مكتوب على الإنسان، وما أشدَّ الضعف حين لا يجد الإنسان من يستعين به! لكن حين يعرف ربّه الغني، هُنا يتفتح من الجلال والجمال ما يجعل للضعفِ حلاوة، يحيى بها العبد راضيًا مُشتاقًا. إن إدراك الضعف هو أولى الخطوات ليتعرّف الإنسان إلى ربّه، فإن أبانا آدم -عليه السلام- بضعفه الأوّل -حين أكل من الشجرة- تعرّف إلى الله -عز وجل- باسمه "التواب الرحيم"، يقول الله تعالى ﴿فَتَلَقَّىٰۤ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَـٰتࣲ فَتَابَ عَلَیۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِیمُ﴾ وهكذا علّمنا أبونا!  وحول هذا يقول ابن القيّم -رحمه الله- (فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ الأسماء الْحسنى، فَمن أسمائه الغفور الرَّحِيم، الْعَفو الْحَلِيم، الْخَافِض الرافع، الْمعز المذل، المحيي المميت، الْوَارِث الصبور، وَلَا بُد من ظُهُور آثَار هَذِه الأسماء؛ فاقتضت حكمته سُبْحَانَهُ أن ينزل آدم وَذريته دَارًا يظْهر عَلَيْهِم فِيهَا أثر أسمائه الحُسنى، فَيغْفر فِيهَا لمن يَشَاء، وَيرْ

المُطلق المُدرك

  بين اتساعين: يقول الله عزّ وجل ﴿وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ سَنُدۡخِلُهُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۤ أَبَدࣰاۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣰّاۚ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِیلࣰا﴾ حين يعيش القلب في النعيم الأخروي، ويتقلّب بين مشاهد الجِنان.. تأتي خاطرة مُلّحة، هذه الخاطرة تتساءل مُتعجّبة "للأبد؟" "خالدين فيها؟" فكلمة الأبد أو الخلود كلمات لها مُطلق لا يُدركها العقل الدنيوي المحدود، تأتي كلمة الأبد ولا يستطيع العقل استيعاب اللاحد! لا يستطيع التصوّر إلا بتوّقف الزمن! ثم إذا ما جاء وصف الجنّة وجدنا الحديث القُدسي الذي يقول اللهُ تعالى فيه: "أعددتُ لعبادي الصالحينَ ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ، ذخرًا بَلْهَ ما أطلعتُهم عليه، اقرأوا إن شئتم (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوْا يَعْمَلُونَ)"، فيقف العقل مرةً أُخرى أمام "ولا خطر على قلب بشر" فيحاول أن يتصوّر الجمال، ويتخيّله، ويدمجه، فلا يجد سبيلًا إلا بما يعرفه، فكيف بما لا

العبودية والتربية

مُقدّمة: في كل أمر من أمور حياتنا ومع واقعنا المُعاصر، لا بد أن نسأل "لماذا؟" حتى وإن بدا الأمر بدهيًّا، وذلك لأننا نحمل الكثير من الشوائب الفكرية المتخلطة، سواء من ثقافة المجتع، أو من الفكر الغربي، أو من غيرهما. وسؤال "لماذا" ضروري لأنه يكشف للإنسان المكرزية التي ينطلق منها، ومتى وضع الإنسان يده عليها فهم الكثير من الأفعال التي يرتكبها، فهل الإنسان المُعاصر مركوزًا إلى ركن شديد يأوي إليه؟ أم أنه في حالة لزجة لا تعرف الحدود والبدايات؟ النقطة الثانية في سؤال "لماذا" لأنه يفضح أو يكشف، يكشف أنّه لا حقائق إلّا حقيقة واحدة -الركن الشديد- وهي الحقيقة التعبديّة، الحقيقة التي يحيا من أجلها الإنسان ويموت عليها، لذا دعنا نسأل سؤال "لماذا" فيما يخص موضوعنا اليوم ألا وهو التربية، لماذا نُربّي؟ لو قال قائل حتى يكون مجتمعنا مجتمعًا فضيلًا، يستمتع بالأمان، لسألناه ثم بعد ذلك؟ يعيش سعيدًا.. ثم بعد ذلك؟ اااه.. نموت، وبالتالي يكشف الموت حقيقة الأشياء، ماذا بعد الموت إذًا؟ هل أديت المطلوب في التربية والذي ينفع لما بعد الموت؟ وبالتالي الإنسان العاقل، هو الذي تكون إ